فصل: باب: إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّف

يعني هل يُعْتَبَرُ ويُعْتَدُّ بتلك الركعة أو لا‏؟‏ فمذهب المصنف أن مدرك الركوع ليس بمدرك للركعة وهو من تفريعات الأخذ بقراءة الفاتحة فإِنه إذا لم يُدْرِك الفاتحةَ لم يُدْرِك الركعة أيضًا، لأنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وهو أخذٌ شديدٌ يُخَالِفُه تواتر السلف‏.‏

بقيت الصلاة خلف الصفِّ كيف هي‏؟‏ فهي مكروهةٌ عندنا، خلافًا لأحمد، فعنده‏:‏ باطلةٌ إن كان في الصفِّ فرجةٌ، فصلاها متخلِّفًا عنه‏.‏ ونَسَبَه الحافظُ رحمه الله تعالى إلى البخاريِّ رحمه الله تعالى أيضًا، مع أن الحديثَ يَدُلُّ على صحة صلاته، حيث لم يأمره بالإِعادة‏.‏

ثم وجهه أن صلاته هذه وإن عُدَّت صحيحةً، إِلا أن المسألةَ في المستقبل بُطْلان صلاة المصلِّي خلف الصفِّ وحده، لقوله‏:‏ «ولا تَعُدْ»، فإذا نهاه فيما يأتي أن يعودَ إليه، لم يَجُزْ لأحدٍ أن يفعل مثله‏.‏ وحَمَله الجمهور على ظاهره وتمسَّكُوا به على الصحة، والأولى له أن يُشِيرَ إلى رجلٍ ليتأخَّر عن الصفِّ، فَلْيَصُفَّ معه، ويَشْهَدُ له مُرْسَلٌ في «مراسيل أبي داود»‏.‏ والفتوى‏:‏ على أن لا يفعله اليوم لقلة العلم وكثرة الجهل، فلعلَّه لا يتأخَّر ويقاتله، فَيُفْسِدُ عليه صلاته‏.‏ وفيه دليلٌ على أن مُدْرِكَ الركوع مُدْرِكٌ للركعة، فإن هذا الرجل أدرك إمامه في الركوع، وركع دون الصفِّ، ثم دَبَّ إلى الصفِّ، وعُدَّ مُدْرِكًا للركعة عندهم‏.‏

783- قوله‏:‏ ‏(‏ولا تَعُدْ‏)‏، وفيه تصويبٌ للنية، وتخطيةٌ للعمل‏.‏ وقد مرَّ تفصيله من قبل، فإِنه بابٌ مستقلٌ‏.‏

وقُرِىء على ثلاثة أوجه‏:‏ من العود، والإِعادة، والعدو‏.‏

باب‏:‏ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوع

واللفظُ يَحْتَمِلُ شرحين‏:‏ الأول أن يَبْسُطَ التكبير ويَمُدَّه على الحركة الانتقالية بحيث يَعْمَرُ به الانحطاطُ كلُّه‏.‏ والثاني‏:‏ أن يُتِمَّ عدده‏.‏ واللفظُ وإن كان أقرب إلى الأول، لكن مراد البخاريِّ هو الثاني، لأنه اشتهر عن بني أُمَيَّة أنهم لا يُتمُّون التكبير ويُنْقِصُون عدده، فلم يكونوا يَأْتُون به في الخفض، وكان يُقَال لمن كانوا يُتِمُّونهُّ‏:‏ مُتِمُّ التكبير‏.‏ فهذا اللفظ قد كان شاع عندهم في إتمام العدد‏.‏ بقي أن بني أُمَيَّة لِمَ كانوا يتركونه في الخفض‏؟‏ فبعد ما عُلِمَ فسقهم، لا حاجةَ لنا إلى بيان منشأ أفعالهم‏.‏ نعم، عن عثمان أيضًا مثله، وهذا الذي ينبغي أن يُطْلَبَ له تأويلٌ‏.‏

784- قوله‏:‏ ‏(‏صلَّى مع عَليَ رضي الله تعالى عنه‏)‏ أي بالبصرة‏.‏ ودلَّ الحديثُ على جريان التهاونُ في أعداد التكبير في زمن الراوي، ولذا يتعرَّض إلى أعداده وإتمامه، ومن ههنا تبيَّن شرح ما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «أنه كان يُكَبِّرُ في كل رَفْعٍ وخَفْضٍ»، مع أنه ليس في القَوْمَةِ إِلا التسميع والتحميد، فإنه عمومٌ غير مقصود أراد به الرَّدَّ على من ترك التكبير عند الخفض، لا نفي التسميع، ومن غَفَل عنه اضْطرب لحلِّه، ونُقِلَ هذا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أيضًا‏.‏ وظني أنه إذا لم يكن يُكَبِّرُ، لم يكن يَرْفَعُ يديه أيضًا، فإِن التكبيرَ والرفعَ قرينان، فإِذا تُرِكَ أحدهما تُرِكَ الآخر‏.‏ ولعلَّ منشأ فِعْلَه ما عند أبي داود، في الجهاد‏:‏ «وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وجيوشُه إذا عَلَوا شَرَفَا كبَّروا، وإذا هَبَطُوا واديًا سبَّحوا»‏.‏ ثم يقول الراوي‏:‏ «وعليه وُضِعَت الصلاة»، أو كما قال‏.‏

قلتُ‏:‏ وهذا اجتهادٌ من الراوي، مع مخالفته لجماهير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وإن سلَّمناه، فلنا أن نقول‏:‏ إن التكبيرَ عند الانحطاط وإن كان في الخفض حَسَنًا، لكنه مُعْتَبَرٌ في القَوْمة شرعًا، لأن ابتداءه منها، فأصله في القومة وإن كان بَسَطه في الانحدار أيضًا، وهذا إبقاءُ التكبير دون ابتدائه، وحينئذٍ صارت شاكلته في الثنايا والصلوات واحدة‏.‏ ولعلّ ابن عمر رضي الله تعالى عنه تَرَك الرفعَ بين السجدتين لمثل هذا، وإلا فهو ثابتٌ ثبوتًا لا مردَّ له، كما عَلِمْت سابقًا‏.‏ ولما عَلِمْنَا أنه اجتهد في أمر التكبير، فتركه في بعض المواضع من اجتهاده، واختاره في البعض، خَفَّ رفعه أيضًا، وأمكن أن يكونَ ذلك أيضًا بنوعٍ من اجتهاده‏.‏ لا أقول بالاجتهاد في نفس الرفع، حاشا وكلا، بل في اختياره وترجيحه على الترك، وإصراره عليه، وتَنْوِيهه بشأنه‏.‏

باب‏:‏ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي السُّجُود

والمراد من الإتمام ههنا‏:‏ ما كان المراد منه في الباب السابق، وقد مرّ‏:‏ أن اللفظ وإن احتمل غيره أيضًا، ولكن عيَّناه لِمَا علمناه من التاريخ‏:‏ أنه قد جرى عندهم البحث في الإتمام والتقصير بحَسَب عدد التكبير، فَحَمَلْنَاهُ عليه‏.‏

297- قوله‏:‏ ‏(‏أَوَلَيْسَ تِلْكَ صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ، فانظر كيف حمل التكبير، حتَّى ظنَّ المُنْكَر سنةً والسنة مُنْكرًا، واحْتِيجَ إلى بيان أن التكبيرَ عند كلِّ خَفْضِ ورفعٍ سنةُ أبي القاسم صلى الله عليه وسلّم وتَرَاجِمُ البخاري هذه ناظرةٌ إلى ما عند أبي داود في حديث ابن أَبْزَى، وكان لا يُتِمُّ التكبير‏.‏ وكان المختار هو الإتمام، فترجم به إيماءً إلى ما قلنا‏.‏

باب‏:‏ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُود

788- قوله‏:‏ ‏(‏إنه أحمق‏)‏‏.‏ أقول، وههنا واقعتان، وأبو هريرة في إحداها، ولا يجب أن يكونَ في الأخرى أيضًا، فلا يَلْزَمُ أن يكونَ هذا اللفظ في حقِّه‏.‏

789- قوله‏:‏ ‏(‏حين يقومُ من الثِّنْتَيْنِ‏)‏‏:‏ يمكن أن يكونَ الراوي أراد به إتمام التكبير، ويمكن أن يكونَ إشارةً إلى ما اختاره مالك‏:‏ إلى أن التكبيرَ في الثالثة ليس عند النهوض، بل إذا بَلَغَ في القيام، كما كان عند التحريمة أيضًا في القيام، واعلم أن هناك سؤالا من جانب الحنفية على الشافعية، وهو‏:‏ إن التكبيرات إذا كانت ثِنْتَيْنِ وعشرين، فإِنْ قُلْنَا بجلسة الاستراحة يَلْزَم‏:‏ إما الزيادة عليها إن قُلْنَا بالتكبير عند الرفع منها، أو يَلْزَم ترك التكبير عند الرفع، مع أن المعهودَ من صلاته صلى الله عليه وسلّم هو التكبير عند كل خفضٍ ورفعٍ‏.‏ وقال الشافعيةُ رحمهم الله تعالى‏:‏ إنه يطوِّل التكبيرَ الواحدَ، ويَبْسُطُه على الجلسة، ويرفع بذلك التكبير، وهو كما ترى‏.‏

واعلم أن الشاميَّ نَسَبَ إلى الطَّحَاويِّ التكبيرَ في القَوْمَةِ، أو يُكَبِّرُ ثم التسميع بعده‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا ليس بجيد، فإنه خلاف التعامُل، ولا ينبغي بناء المسائل على الألفاظ‏.‏ والذي أرى أنه نُسِبَ إليه، لما في «معاني الآثارُ» قوله‏:‏ وذلك أنا رأَينا الدُّخُول في الصلاة يكون بالتكبير، ثم الخروج من الرجوع والسجود يكونان أيضًا بتكبيرٍ‏.‏ وكذا للبرماوي الشافعي كتابٌ في الفِقْهِ، وذكر فيه‏:‏ أنه كان أولا التكبير عند الرفع من الركوع أيضًا، حتَّى اتفق مرةً أن أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه تخلَّف عن ركعةٍ، وأدرك الإِمامَ في الركوع، فقال‏:‏ «الله أكبر، الحمد لله، الله أكبر»، فكان التكبير الأول للافتتاح، والتحميد خُلاصةً للفاتحة، والتكبير الثالث للركوع، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ «إن ربَّه رضي بتلك الكلمات، وشرع لكم التسميع»‏.‏ ومن هنا شُرِعَ التسميع، غير أني لم أر تلك القصة إلا في كتابه‏.‏

باب‏:‏ وَضْعِ الأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوع

والتطبيق عندي بضم اليدين بدون تشبيك‏.‏ وبَالَغَ في بيان الضم من ذكر التشبيك، كما عند مسلم، وهو هيئة القيام بين يدي الملك، وكانت فيه مَشَقَّة، ثم رخَّص بالاعتماد على اليدين‏.‏ وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يراه عزيمةً، فإن العطايا على قدر البلايا، ولم يكن يراه مَنْسُوخًا عن أصله‏.‏ ومن طَعَن عليه، فقد أفرط في التعصب، فإنه ثَبَتَ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أيضًا‏.‏ ولكن الجمهور لما تَرَكُوه وَجَبَ العملُ بما فعلوه‏.‏ وقد بَسَطْنَا الكلامَ فيه في رسالتنا‏:‏ «نيل الفرقدين»، فراجعه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في ترك الرفع‏.‏

باب‏:‏ إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوع

باب‏:‏ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوع

باب‏:‏ حدّ إتْمَام الرّكُوعِ والاعْتِدَالِ فِيهِ والاطْمَأْنِينَة

قوله‏:‏ ‏(‏والا طمأنيته‏)‏، والصحيح كما في الهامش‏:‏ والطمأنينة‏.‏ وحدُّ الإِتمام غير مُنْضَبِطٍ‏.‏

792- قوله‏:‏ ‏(‏ما خلا القيامَ والقعودَ قريبًا من السَّوَاء‏)‏، فجعل الراوي ههنا التسوية بين المواضع الأربعة‏:‏ الركوع، والسجود، والقومة، والجلسة‏.‏ واستثنى القيام والقعود، لأنه ثَبَتَ التنوُّع في قيامه جدًا، فتارةً جَعَلَه أطول من أطول، وأخرى قَصَرَه حسبما دَعَتْهُ الحاجةُ، بخلاف تلك المواضع الأربعة، فإنها كانت على شاكلةٍ واحدةٍ غالبًا‏.‏ وعند مسلم ما يَدُلَّ على التسوية بين القيام والقعود، وبين هؤلاء الأربعة بدون استثناء، والظاهر أنه مسامحةٌ‏.‏ والتسويةُ راجعةٌ إلى الأربعة فقط، ولا حاجةَ إلى تأويل ألفاظ الرواة عند ظهور المراد جُمُودًا على لفظهم فقط، ومن تأوَّل فيه أراد منه التناسُب، أي‏:‏ إن كان قيامه طويلا، فسائرُ الأفعال أيضًا كانت طويلةً بحَسَبِهِ، وإن كان قصيرًا، فسائرُها أيضًا كذلك‏.‏ والأرجح عندي كما في «صحيح البخاري»‏.‏

باب‏:‏ أَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلّم الَّذِي لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بالإِعَادة

793- قوله‏:‏ ‏(‏ارْجِعْ فَصَلِّ‏)‏ وعُلِمَ منه‏:‏ أن الصلاةَ إذا اشتملت على كراهة التحريم وَجَبَت إعادتها، ومقتضاه أن تجب الإِعادةُ على من ترك الجماعةَ، وصلَّى في بيته مُنْفَرِدًا، فإِن الجماعةَ واجبةٌ، فإذا تَرَكَهَا وَجَبت إعادتُها‏.‏ وتردَّد فيه ابن عابدين الشامي، لأنه إن قُلْنَا بوجوب الإِعادة، فلا فائدةَ فيه لأنه إن يُعِدْها يُعِدْها مُنْفَرِدًا‏.‏ وإن قُلْنَا بعدم وجوبها، يَلْزَمُ نقض الكلية‏.‏

قلتُ‏:‏ ولي جَزْمٌ بأنه لا يعيدها، والكلية فيما كانت في الإِعادة فائدة‏.‏ ولا تمسُّك فيه على فرضية التعديل، لأن الأمر بالإِعادة ليس مبنيًّا على فرضيته، كما زَعَم، بل أمكن أن يكون ضربًا من التعزير، وهو الظاهر من الأمر بإِعادة عمل عمل عمله مرةً‏.‏ وحينئذٍ لم يَبْقَ فيه دليلٌ على ما راموه‏.‏ فأمعن النظر فيه، فإِن المعاني تختلف باختلاف الاعتبارات، وذلك عند أهل العرف كثيرٌ‏.‏

ثم اعلم أن حديثَ مُسِيء الصلاة لا يرويه إلا أبو هريرة ورِفَاعة بن رافع‏.‏ وفي جملة طُرُق حديث أبي هُرَيُرَة رضي الله عنه‏:‏ «ثم اقرأ ما يتسَّر معك من القرآن»‏.‏

وتمسَّك منه الحنفية على عدم ركنية الفاتحة‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا ليس بصحيحٍ، لأن الفاتحةَ وإن لم تكن رُكْنًا، لكنها واجبةٌ عندنا أيضًا‏.‏ والسياقُ سياقُ التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلِّمه الفاتحة يَلْزَم درج كراهة التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلا، مع أنها مذكورةٌ في حديث رِفَاعة صراحةً، وإن كانت مجملةً في حديث أبي هُرَيْرَة، على أن التيسيرَ مُعْتَبَرٌ في الطول، لا في العرض، كما مرَّ تقريره في المقدمة‏.‏

وحاصله‏:‏ إن الله تعالى لمّا عَلِمَ الاستثقالَ عليهم في القيام بالليل، رخَّص لهم أن لا يطوِّلوه كما كانوا يفعلونه في الليل كلِّه، أو أكثره، بل لهم أن يقوموه حسبما تيسَّر لهم‏.‏ فهذا تيسير في حصص الليل، لا في الفاتحة كما فَهمُوه، ثم أقول‏:‏ إن قوله‏:‏ «ثم اقرأ ما يتسر معك من القرآن»، ليس بناء على ركنية الفاتحة، بل لكون الرجل بدويًا أعرابيًا لا يدري أنه كان عنده شيءٌ من القرآن، أم لا‏.‏ وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبيرُ هكذا، ولذا قال‏:‏ «وإلاّ فاحمد الله، وكَبِّرْهُ»، فدَلَّ على أنه كان ممن لا يُسْتَبْعَدُ منه أن لا يكون عنده قرآنٌ أصلا، وإذن لا يُلائِمُه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلا، وإنما الأَلْيَقُ بحاله الإِجمالُ، فيقرأ بما يَقْدِرُ، ولذا ورد عند الترمذيِّ‏:‏ «فإن كان معك قرآن»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وتُرَاك فَهِمْت الآن حسن التعبير‏.‏

793- قوله‏:‏ ‏(‏حتى تَطْمَئِنَّ راكعًا‏)‏، وفي حديث أبي حُمَيْد الساعدي حتى جعلنكا فقار مكانه، ومنه يَعْلَمُ قدر التعديل، وقدَّره فقهاؤنا بتسبيحةٍ، وما وراءها فسنةٌ‏.‏

793- قوله‏:‏ ‏(‏ثم افعل ذلك في صلاتك كلِّها‏)‏ تمسَّك به الشيخ ابن الهُمَام على وجوب الفاتحة في الأُخْرَيَيْن أيضًا، واختاره العيني رحمه الله تعالى‏.‏ والمشهور أنها مستحبةٌ لِمَا ثَبَتَ عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما‏:‏ «أنهما كانا يُسَبِّحان في الأُخْرَيَيْن»‏.‏ وقوَّى ابن أَمير الحاج في «شرح المنية» الاستحباب‏.‏ وعن الحسن بن زياد بالوجوب، نحو ما اختاره الشيخ‏.‏ ويمكن الجواب عن استدلاله بأن قوله‏:‏ «ثم افعل‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ لا يَرْجِعُ إلى القراءة وإن جعله الشيخ محطًّا، بل المحطُّ عندنا هو التعديل، لأنك قد علمت فيما مرَّ أن هذا الرجل قد كان خفَّف في صلاته وترك التعديل، كما في لفظ الترمذي‏:‏ «فأَخفَّ في صلاته»‏.‏ وإذن التَّبَادُرُ أن أمره يَنْصَرِفُ إلى ما قَصَرَ فيه، لا إلى القراءة‏.‏ ثم ذكر له بعض الأشياء تكميلا وتتميمًا، وجعل الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى محطِّه الفاتحة وسورة‏.‏

ثم إن كنت سَمْحًا تَقْدِرُ أن لا تُنَازِعَ المُخَاطب قبل أن تفهم كلامه، فاعلم أن الأمرَ لمطلق الطلب عندي، فيندرجُ تحته الوجوب والاستحباب معًا، لا على طريق القول بعموم المجاز، ولا الجمع بين معاني المُشْتَرك، بل على ما هو رأي المَاتُرِيدِي‏.‏ فإِن الأمرَ- مثلا- اضرب حكايةٌ من قوله‏:‏ افعل فعل الضرب، ونحو‏:‏ صلِّ حكايةٌ من قوله‏:‏ افعل فعل الصلاة‏.‏ وحقيقةُ الصلاة لا تختلف بين الفريضة والنافلة، فتتناول كِلْتيهما، وهكذا الصومُ والحجُّ كلُّه يتنوَّع وينقسم إلى الفريضة، والواجب، والمندوب مع اتحاد الحقيقة في كلِّها‏.‏ فإذا وُسِّع التفصيل في المحكي عنه مع اتحاد العبارة، فليكن في الأمر أيضًا‏.‏ كيف، وهو حكايةٌ عنه فكما أن الفريضةَ، والواجبَ، والمستحبَ كلَّها تدخُلُ في لفظ الصلاة بدون تكلُّف، كذلك فلتدخل كلُّها في الأمر، ويكون الأمر لطلب تلك الحقيقة فقط على صفتها التي في الخارج‏.‏ وليس هذا من الجمع بين معاني المُشْتَرَك في شيءٍ، بل هو طلبٌ للحقيقة المختلفة بحَسَب الأنواع‏.‏

فالتنوُّع في الأمر ليس من قِبَل نفسه ومدلوله، بل من جهة اختلاف تلك الحقيقة، فإِن كانت واجبةً يكون طلبها أيضًا واجبًا، وإن غيره فغيره‏.‏ وهل يَلْصَق بالقلب أن مِصْدَاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 56‏)‏ هو الصلاة التي صلَّى عليه مرةً في عمره، والباقية خارجة عن مِصْدَاقه، بل الأمر فيه لطلب مطلق الصلاة على النبيِّ‏:‏ إن كانت واجبةً فوجوبًا، وإن كانت غيره فغيره‏.‏ وليس هذا الاختلاف من جهة الأمر، بل لاختلاف تلك الحقيقة بعينها‏.‏ وإذا فَهِمْتَ أن اللفظَ الواحدَ يُطْلَقُ على الأنواع المختلفة في زمانٍ واحدٍ، ولا يكون ذلك عندهم مجازًا، ولا جمعًا بين معاني المُشْتَرَك، فكذلك الأمر لطلب هذه الحقيقة، وإن اختلفت بحَسَب العَوَارِض‏.‏

فاعلم أن قوله‏:‏ «افعل في صلاتك كلِّها» أيضًا يتناول الوجوبَ والاستحبابَ، فمعناه‏:‏ أن اقرأ القرآن في كلِّ الصلاة، فمتى كان واجبًا فوجوبًا، ومتى كان مستحبًا فاستحبابًا‏.‏ وحينئذٍ جاز أن تكون القراءةُ واجبةً في الأُوَلَيَيْنِ، ومستحبةً في الأُخْرَيَيْن مع دخولها تحت أمرٍ واحدٍ، ولا يَثْبُت ما رامه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله‏.‏ أمَّا دخول الأنواع المختلفة تحت لفظٍ واحدٍ، فالاتحاد حقيقة الفرض والنفل، وإنما الفرقُ من حيثُ لُحُوق الأمر وعدمه، وذلك من العَوَارِض، فلا تختلف بها الحقيقةُ‏.‏ وأَبْعَدَ من ذهب إلى تبايُن تَيْنِكَ الحقيقتين، وقد قرَّرناه من قبل، والتفصيل في «فصل الخِطَاب»‏.‏ وبعد، فلي بعض تردُّد في استحباب القراءة في الأُخْرَيَيْن لمكان الاختلاف، وتجاذُب الأدلة، لأنه ليس في المرفوع كثيرُ شيءٍ يَدُلُّ على الفرق بين الأُولَيَيْن والأُخْرَيَيْن‏.‏

فإِن قلتَ به، لَزِمَ على ترك ما رُوِي عن علي رضي الله عنه في العَيْنِيِّ، وابن مسعود رضي الله عنه في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة‏.‏ وإن اتَّبَعْتَ أثرهما، يَلْزَمُ على خلاف تبادُر الحديث، فلذا أتوقَّف فيه‏.‏ وإنما لم نَقُلُ بوجوب السورة في الأُخْرَيَيْن لِمَا عن قَتَادة في البخاري مرفوعًا‏:‏ «أنه كان يقرأ في الظهر في الأُولَيَيْنِ بأمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخْرَيَيْن بأَمِّ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، فقام الدليل على التخصيص‏.‏

قلتُ‏:‏ ومع ذلك ثَبَتَ القراءةُ بالسورة أيضًا، فلا مناص إلا بالقول بالجواز، وهو قول فخر الإِسلام منا، وهو الأصوب عندي‏.‏ ولعلَّ الأكثر من فِعْل النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تركها، وهو السنة‏.‏ وقد ذكرت بعض الكلام فيه في رسالتي «فصل الخطاب»، من شاء فليرجع إليها‏.‏

باب‏:‏ الدُّعاءِ فِي الرُّكُوع

باب‏:‏ ما يَقُولُ الإِمامُ وَمَنْ خَلفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوع

ولعلَّه نظر إلى ما أخرجه مسلم‏:‏ «أمَّا الركوع، فعظِّمُوا فيه الرَّبَّ‏.‏ وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فادعوا فيه، فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَابَ لكم»‏.‏ بالمعنى‏.‏ وهذا يَدُلُّ على أن الدعاء ينبغي في السجود، أمَّا الركوع، ففيه تعظيم الرب جلَّ مجده‏.‏ قلتُ‏:‏ وتعظيم الرب لا يُنَافي الدعاء، فله أن يُعَظِّم ربه ويدعو بدعاءٍ مُخْتَصَرٍ أيضًا‏.‏ فإن كان البخاري أراد به إسقاط ما عند مسلم، فليس بصحيحٍ، وإن كان أراد دفع الإيهام فقط، فهو ناهضٌ‏.‏ ثم العمل عندي ينبغي أن يكون على حديث مسلم لأن الحديث جعل التعظيمَ في الركوع، والدعاءَ في السجود، فدلَّ التقابُل على أن المراد من التعظيم غير الدعاء، وإن كان الدعاء أيضًا جائزًا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

بقي شيءٌ، وهو أن التعظيمَ أزيدُ في السجود من الرجوع، فينبغي أن يكونَ أمر التعظيم في السجود، مع أن الحديث جعله في الركوع‏.‏ فكان للشارحين أن يَكشِفُوا عن معنى التعظيم لِيَظْهَرَ وجهُ اختصاصه بالركوع، وقد كَشَفُتهُ بحمد الله في «رسالتي»، فليراجع‏.‏

ثم إن ابن أمير الحاج صرَّح بجواز الأدعية كلِّها، حتى في الجماعات بشرط عدم التثقيل على القوم‏.‏ وراجع «المواهب اللدنية» لمواضع الأدعية من الصلاة، فإِنه بَسَطَها جدًا‏.‏ وما في «المبسوط» لشمس الأئمة من عدم جواز الأذكار في الفرائض، فهو متروكٌ عندي، والمختار ما قرَّره ابن أمير الحاج‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْد

وقد مرَّ‏:‏ أن المشهورَ التوزيعُ، وفي روايةٍ‏:‏ الجمع للإِمام، وبه أفتى بعضَ الكبار مِنَّا كالحلواني، والفضل بن محمد، وأبو عليّ النسفي‏.‏

126- بابٌ

أشار إلى مذهب الشافعيِّ رحمه الله تعالى‏:‏ أن القنوت الراتبة في الفجر في السنة كلِّها، وفي الوتر في النصف من رمضان فقط‏.‏ وإنما لم يُتَرْجِم به، لأنه لم يُرِدْ تنويره‏.‏

797- قوله‏:‏ ‏(‏يَقْنُتُ في الركعة الأخرى‏)‏‏.‏ وهذه قنوت النازلة، وهي قنوت النازلة، وهي عندهم في الصلوات الخمس، ويَجْهَرُ بها، ولو في السِّرية‏.‏ قلتُ‏:‏ والجهرُ في السِّرية غريبٌ جدًا، واستدلَّوا بما عند أبي داود، وهو ضعيفٌ عندنا‏.‏ وتكلَّم الطحاويُّ في قنوت النازلة، ويُتَوَهَّمُ النسخ من عبارته، فليتركه‏.‏ فإِن الشيخ العَيْني رحمه الله تعالى نَقَلَ عن الطحاويِّ ما يَدُلُّ على أنها ثابتةٌ عندنا أيضًا‏.‏ وقنوت النازلة عندنا في الجهرية، كما في «شرح الهداية» للأمير الإتقاني، وفي شرح شمس الدين النووي‏:‏ جوازها في الصلوات مطلقًا‏.‏

797- قوله‏:‏ ‏(‏يَلْعَنُ الكُفَّار‏)‏‏.‏ ذِكْرُ الأسماء في الصلاة مُفْسِدٌ عندنا، غير أن في الدعاء قولين‏:‏ الأول إن كان ذكرها في سِيَاق الدعاء عليهم لم يُفْسِد، وإن كان في سِيَاق الدعاء لهم أَفْسَد‏.‏ وفي قول‏:‏ أَفْسَدَ مطلقًا، والمختار هو الأول، فلا حاجةَ إلى الجواب‏.‏

799- قوله‏:‏ ‏(‏مَنِ المُتَكَلِّمُ‏)‏، اخْتَلَفَ في جوابه التفتازاني والجُرْجَاني، فقال التفتازاني‏:‏ إن الجواب لمن قال‏:‏ من التائب‏؟‏ التائب زيد‏.‏ وقال الجُرْجَاني في «حاشية الكشاف»‏:‏ إن حقَّ الجواب‏:‏ زيد التائب‏.‏ قال الكَافِيَجِي‏:‏ إن الجُرْجَاني محرومٌ من المعاني، إِلا أن عندي له وجوهًا ذكرتها‏.‏

799- قوله‏:‏ ‏(‏رأيت بِضْعَةً وثلاثين‏)‏، وفي روايةٍ‏:‏ «اثني عشر ملكًا»‏.‏ وهما عندي في واقعتين‏.‏

799- قوله‏:‏ ‏(‏أَيُّهم يَكْتُبُهَا‏)‏، وعند مسلم «أيهم يَصْعَدُ بها أول»‏.‏ وقد ثَبَتَ عندي تجسُّد المعاني وتَجَوْهُر الأعراض بالعقل والنقل، فلا بُعْدَ عندي في صُعُودها‏.‏ واعلم أن حديث عرض الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لا يقوم دليلا على نفي علم الغيب، وإن كانت المسألة فيه‏:‏ أن نسبة علمه صلى الله عليه وسلّم وعلمه تعالى كنسبة المُتَنَاهي بغير المُتَنَاهي، لأن المقصودَ بعرض الملائكة‏:‏ هو عرض تلك الكلمات بعينها في حَضْرَتِه العالية، عَلِمَها من قبل أو لم يَعْلَمْ، كَعَرْضِها عند رب العزة، ورَفْع الأعمال إليه‏.‏

فإن تلك الكلمات مما يحيا به وجهُ الرحمن، فلا بنفي العرضُ العلمَ، فالعرضُ قد يكون للعلم، وأخرى لمعانٍ أُخَر‏.‏ فاعرف الفرق‏.‏

1127- بابُ الاطْمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ

والمراد به تكامُل الهيئة باستقرار كل عضوٍ مكانه، وقد مرّ منا‏:‏ أنه لا اعتناءَ للشرع بطول القيام، فإنه ورد بالأنحاء كلِّها حسب الحاجات، أمَّا التعديلُ في المواضع الأربعة، فله اعتناءٌ به، وراجع له «كشف الستر»‏.‏

800- قوله‏:‏ ‏(‏حتَّى نقولَ‏:‏ قد نَسِيَ‏)‏‏:‏ يعني من طول قَوْمَتِه‏.‏ ولفظ «قد نَسِيَ»، وإن دَلَّ على الطول، لكنه من طرفٍ آخر دَلَّ على أنه لم يكن من عادته‏.‏

802- قوله‏:‏ ‏(‏فَأَنْصَبَ هُنَيَّةً‏)‏ ‏(‏به كئي تهوري ديركي لئي‏)‏‏:‏ أي بقي هُنَيَّةً ساكنةً أطرافُه‏.‏ وفي «الهامش» «فأَنْصَت» بالتاء مكان الباء، واستعمله الراوي ههنا في السكون على الأطراف، مع أنه للإصغاء والتهيُّؤ للاستماع‏.‏

802- قوله‏:‏ ‏(‏أبو يزيد‏)‏‏:‏ وهو عمرو بن سَلَمة، وفيه جلسة الاستراحة، وقد مرَّ مني جوابه، وحملها الطحاويُّ على الضرورة‏.‏

باب‏:‏ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُد

وقد مرَّ‏:‏ أن المرادَ به بَسْطُه على الأنحناء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر يَضَعُ يَدَيْه قبل رُكْبَتَيْهِ‏)‏‏.‏ قال الحافظ‏؟‏ وإنه مُتَرْجَمٌ به، لا له‏.‏ وقد وَرَدَ فيه الحديث بكلا النحوين، وقد تكلمنا عليه في درس الترمذي‏.‏ قال النووي‏:‏ لا يَظْهَرُ ترجيح أحد المذهبين على الآخر من حيث السُّنَّة‏.‏ ا ه‏.‏

803- قوله‏:‏ ‏(‏كان يُكَبِّرُ‏.‏‏.‏‏.‏ في رمضانَ وغيرِه‏)‏‏.‏ وإنما تعرَّض الراوي إلى رمضان لمكان بعض الزيادات في هذا الشهر، فنبَّه على أنه لم تكن فيه زيادةٌ في باب التكبيرات‏.‏

804- قوله‏:‏ ‏(‏يَدْعُو لِرِجَالٍ‏)‏، وفي «البحر»‏:‏ إنه لو دعا على معيَّن لم تَفْسُدْ صلاته‏.‏ وهذا من الأُحْجِيَّة‏:‏ أن التلفُّظ بزيدٍ فقط مُفْسِدٌ، والدعاء عليه غير مُفْسِدٍ‏.‏ فالجزء مُفْسِدٌ، والكلُّ ليس بمفسدٍ‏.‏ وهذا كما أن دِيَة الأطراف قد تزيد على دِيَة النفس‏.‏ وتعرَّض إليه صدر الشريعة في «شرح الوقاية»، فراجعه‏.‏

804- قوله‏:‏ ‏(‏وأهلُ المَشْرِق يومئذٍ من مُضَرَ‏)‏‏:‏ أراد به شرق العرب، فإِن الإِسلام لم يَخْرُج من جزيرة العرب بَعْدُ‏.‏

805- قوله‏:‏ ‏(‏كَذَا جاء بِه مَعْمَرٌ‏)‏، هذه نغمةُ الاستفهام‏.‏ سأله سُفْيَان عن عليّ رضي الله عنه‏.‏

805- قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ لقد حَفِظ‏)‏، وقد كان في المجلس مَعْمَر، وسُفْيَان، وابن جُرَيْج، والزُّهْرِي‏.‏ ثم قال ابن جُرَيْج‏:‏ إني أحفظ لفظ الساق مكان الشِقِّ‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ السُّجُود

قيل‏:‏ إنه يَحْرُم على النار أن تَأْكُلَ أعضاءَ السجود‏.‏ وقيل‏:‏ الرأس، والجبهة فقط‏.‏ وفيه خلافٌ بين النووي في «شرح مسلم»، والحافظ رحمه الله تعالى، فليحرَّر كلام الحافظ، فإن كلامه مُؤَثِّرٌ هنا‏.‏ ولا بُعْدَ أن يكون فيه غلطٌ من الناسخ، فإن نسخته الجديدة مملوءةٌ من الأغلاط وصححتها، فبلغت أغلاطها إلى خمس مئة‏.‏ والعلم عند الله سبحانه وتعالى‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏يُحْشرُ الناس‏)‏، هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏فيأتيهم الله‏)‏، وقد مرَّ مني‏:‏ أن الأفعال اللازمة المُسْتَعْمَلة في الحضرة الإلهية يُرَاد بها‏:‏ تَعَلُّق تلك الصفة بالمحل، والمتعدية منها يُرَاد بها‏:‏ إحداث هذا المحل وإيجاده‏.‏ فالإتيان والنزول والاستواء كلها أفعال لازمة، فَيُرَاد بها‏:‏ تَعَلُّق هذه الصفات بالمحل، وهذه كلُّها تجلِّيات للرب جلَّ مجده‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏كلاليب‏)‏‏:‏ هي علائق النفس تَتَجَسَّدُ هناك‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏بآثار السجود‏)‏‏.‏ وعند مسلم ما يَدُلُّ على استثناء دَارة الوجه فقط‏.‏ قلتُ‏:‏ ولعلَّ الحال يكون مختلفًا، فتأكل النارُ بعضَهم غير دَارة وجههم، وبعضَهم أعضاءَ سجودهم كلَّها‏.‏ واسْتُفِيدَ منه‏:‏ أن العبادات أيضًا تَذْهَبُ إلى جهنم، إِلا أن النار لا تُؤَثِّرُ فيها أصلا‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏حَمِيل السيل‏)‏ ‏(‏روكا ملغوبا‏)‏‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏ثم يفرغ الله من القضاء‏)‏ إطلاق الفراغ مشاكلة فقط فإنه إذا لم يكن له شغل لم يكن له فراغ‏.‏

806- قوله‏:‏ ‏(‏لك ذلك ومِثْلُهُ معه‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ إني سمعته يقول‏:‏ ذلك لك وعشرة وأمثاله‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ ولعلَّهما حديثان، فحَفِظَ كلٌّ ما لم يحفظه الآخر‏.‏ وقيل‏:‏ المثل جنس يَصْدُق على الكثير أيضًا، فيقع على الأمثال‏.‏ وما تبيَّن لي أن لفظَ الحديث كان‏:‏ «ومثله عشر مراتٍ» بالتعاطف هكذا‏:‏ مثله، ومثله، ومثله،‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فاستوفى أبو سعيد كلَّه في لفظٍ، واقْتَصَرَ آخرُ على مرةٍ منها‏.‏

باب‏:‏ يُبْدِي ضَبْعَيهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُود

باب‏:‏ يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيهِ القِبْلَة

باب‏:‏ إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُود

قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ إن حديث ابن بُحَيْنَة المُعَلَّق ههنا ظاهره وجوب التفريج المذكور، لكن أخرج أبو داود ما يَدُلُّ على أنه للاستحباب، وهو حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه‏:‏ «شكا أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم له مَشَقَّةَ السجود عليهم إذا انْفَرَجُوا، فقال‏:‏ اسْتَعِينُوا بالرُّكَب»‏.‏ وترجم له بالرخصة في ذلك، أي‏:‏ في تركِ التفريج‏.‏ قال ابن عَجْلانِ- أحد رواتهِ ‏:‏ وذلك أن يَضَعَ مِرْفَقَيْهِ على رُكْبَتَيْه إذا طال السجود وأعْيَا‏.‏ وقد أخرج الترمذيُّ الحديثَ المذكورَ، ولم يقع في روايته‏:‏ «إذا انفرجوا»، فترجم له‏:‏ ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود، فجعل محل الاستعانة بالرُّكَب لمن يَرْفَعُ من السجود طالبًا للقيام‏.‏ واللفط مُحْتَمِلٌ لِمَا قَال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تُعَيِّنُ المراد‏.‏ ا ه‏.‏

قلتُ‏:‏ شرح أبي داود مرجوحٌ عندي، أمَّا شرح الترمذي فله وجهٌ‏.‏ وحاصله على ما نقله الحافظ‏:‏ أن المرادَ من الاستعانة بالرُّكَب‏:‏ الاستعانةُ عند النهوض من السجود، دون الاستعانة بالمِرْفَقَيْن حال السجود، لكن لفظه عندنا هكذا‏:‏ باب الاعتماد في السجود‏.‏ وظاهرُه رَاجِعٌ إلى شرح أبي داود، لكن لمَّا نقل عنه الحافظ ما يَدُلُّ على الاعتماد حين القيام، نَاسَبَ أن يُؤَوَّل في النسخة التي بأيدينا أيضًا، بأن يُقَالَ‏:‏ معنى الاعتماد في السجود‏:‏ الاعتماد في القيام من السجود‏.‏ ثم هذا التأويلُ لا يجري فيما أخرجه الترمذيُّ من متن الحديث عندنا، لأن فيه‏:‏ «أن أصحابه اشتكوا مَشَقَّةَ السجود عليهم إذا تَفَرَّجُوا، فقال‏:‏ استعينوا بالرُّكَب»‏.‏ وهذا يَدُلُّ على أن الشِّكَاية كانت في حال السجود، لا في حال القيام من السجود‏.‏

وأخرجه الطَّحَاوِيُّ في باب التطبيق في الركوع، وليس فيه لفظة‏:‏ «إذا تفرَّجُوا»‏.‏ ولذا وَسِعَه أن يَحْمِلَهُ على الاستعانة بالرُّكَب في الركوع على خلاف التطبيق‏.‏ فتحصَّل من المجموع ثلاثة شروح‏:‏ الأول للترمذيِّ، وحاصلُه على لفظ الحافظ‏:‏ اسْتَعِينُوا بالرُّكَب عند القيام من السجود لئلا يَشُقُّ عليكم التفريج‏.‏ والثاني للطَّحَاوِيِّ‏:‏ أي اسْتَعِينُوا بالرُّكبِ في الركوع بالقبض عليها- على خلاف التطبيق- مخافةَ أن تَسْقُطُوا‏.‏ والثالث لأبي داود‏:‏ أي اسْتَعِينُوا بالمرافق في حال السجود خَشْيَةَ أن تَتْبَعُوا ولا يحتمل لفظ أبي داود غير هذا الشرح، بخلاف لفظ الترمذيِّ، فإنه وإن كان على اللفظ الذي عندنا، لكنه يحتمل أن يُرَادَ فيه من الاستعانة‏:‏ الاستعانةُ عند القيام، كما مرَّ منا تأويله‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد تكلَّم عليه الطَّحَاوِيُّ عند بيان التفقُّه فيه بما يَدُلُّ على أنه أدرك سرَّ الصلاة‏.‏ فقال ما حاصله‏:‏ إن بُنْيَة الصلاة تُبْنَى على المُرَاوَحة، والتفريق بين الأعضاء، والمجافاة والتفرُّج بينها، وعدم استعانة بعضها من بعض، وعدم اعتماد أحدها على الآخر، فإنه أَمَرَ في القيام بصف القدمين وهو تفريقُهما‏.‏ وكذلك في السجود بأن يُؤَدِّيه على سبعة آراب، ومآلُه هو التفريقُ بينها، وعدمُ استعانة بعضها ببعض، وهو محطُّ التفريج‏.‏ فإذا كان الحال في القيام والسجود كذلك، فينبغي أن يكونَ في الركوع أيضًا مثله، فَيُفَرِّقُ بين الأيدي ولا يُطْبِقُ، لأنه أيضًا نوعُ استعانةٍ ولعَمْرِي هو كلامٌ في غاية المتانة‏.‏

فإذا كان الأمر كما حرَّره الطَّحَاوِيُّ، فلعلَّهم ما كانوا يَسْتَعِينُون في صلواتهم بالرُّكَب عند الخرور إلى السجود، والرفع منه، فرخَّص لهم في ذلك‏:‏ أن يَسْتَعِينُوا بالرُّكَب‏.‏

فالصوابُ عندي أن الحديثَ محمولٌ على الاستعانة بالرُّكَب عند النهوض، وعند الخُرُور إلى السجود، ولا يأباه إلا لفظ التفرُّج عند الترمذيِّ‏.‏ ويمكن شرحه‏:‏ أن المراد من التفرُّج في السجود‏:‏ هو عدم الاعتماد، وعدم الاستعانة عند القيام منه، والذهاب إليه كذلك‏.‏ مع أنه ليس عند الطَّحَاوِيِّ، وهو الذي رَامَهُ عمر رضي الله عنه من قوله، كما عنده‏:‏ «أَمِسُّوا» فقد سُنَّت لكم الرُّكب»، فإن لفظَ الإمساس ناظرٌ إلى ما قلنا‏.‏ وعند الترمذيِّ عنه‏:‏ إن الرُّكَب سُنَّت لكم، فخذوا بالرُّكَب»‏.‏ ورواه البيهقي بلفظ‏:‏ «كنا إذا رَكَعْنَا جعلنا أيدينا بين أفخاذنا، فقال عمر‏:‏ إن من السُّنَّة الأخذ بالرُّكَب»‏.‏

ولفظ عمر رضي الله عنه هذا، ولفظ المرفوع‏:‏ «استعينوا بالرُّكَب» بمعنى، فليس هذا الاستعانة في السجود أصلا كما ضرح أبو داود‏.‏ ثم يُسْتَفَادُ من الحديث أن تلك الاستعانة رُخْصَةٌ، ومعنى الرَّخْصَةِ فيه ظاهرٌ‏.‏ ولذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يُطْبِقُ بين يديه عملا بالعزيمة، ونحوه عن عليّ رضي الله عنه أيضًا‏.‏ فالطعنُ عليه تَعَسُّفٌ، على أن الأُسْوَةَ عنده صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وكان طَبَّق فيها‏.‏ وقد عَلِمْنَا من عادات الصحابة رضي الله عنهم‏:‏ أنه إذا اتفق لهم أمرٌ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم دَاوَمُوا عليه، وذلك غيرُ قليلٍ منهم‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أن الطَّحَاوِيَّ أخذ الاستعانةَ بالرُّكَب عند الذهاب إلى الركوع، وأخذها الترمذيُّ عند النهوض من السجود، وأخذتهما عند الذهاب، وعند النهوض كليهما، فإن العُسْرَ فيهما على السواء‏.‏ وإنما حَمَلَني على ذلك الشرح تفقُّه الطَّحَاويِّ، وترجمة الترمذيِّ على ما نقلها الحافظُ رحمه الله، فهو الشرح للحديث عندي، ولا بحثَ لنا عن ترجمة الترمذيِّ‏.‏ فليكن على لفظ الحافظ رحمه الله، أو على ما في أيدينا، فلا تُسْرِعْ في الرَّدِّ والقَبُول، فرُبَّ عَجَلَةٍ تُفْضِي إلى عَثْرَةٍ‏.‏

باب‏:‏ السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُم

وحاصلُه‏:‏ أن يَسْجُدَ بحيث يكونُ الساجدُ سبعًا، لا أن يَسْجُدَ هو ويكون السبعُ آلاتٍ له فقط‏.‏ وفي الخارج‏:‏ أن الأشعارَ أيضًا تَسْجُدُ، ولذا نهى أن يُصَلِّي مقصوصًا‏.‏ وفي الآثار‏:‏ أن الثيابَ تَسْجُدُ أيضًا، فنهى عن كفِّها‏.‏ فإذا كان حال الثياب والأشعار هذا، فما بال الأعضاء‏.‏ وادَّعَيْتُ منه‏:‏ أن اليدين أيضًا تركعان، كما أنهم تَسْجُدَان، وليستا بمُعَطَّلَتَيْن‏.‏ واختار ابن الهُمَام‏:‏ أن وضُعَ السبعة واجبٌ‏.‏ وفي المشهور‏:‏ وجوب وضع الجبهة وإحدى الرجلين فقط، ووضعُ البواقي سنةٌ‏.‏

قلتُ‏:‏ ولعلَّ للجبهة مَزِيَّةً على سائر الأعضاء، اختصاصًا بحقيقة السجود ما ليس لسائرها، كما يُعْلَمُ ذلك من الأدعية الواردة في السجود، فأمكن أن يكونَ القولُ المشهور كاشفًا لهذا المعنى‏.‏ وحينئذٍ ينبغي أن يبقى في النظر فقط دون العمل‏.‏ وبعبارةٍ أخرى‏:‏ إن القول المشهور ليس لبيان ما ينبغي في العمل، بل لبيان اختصاص الجبهة بحقيقة السجدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يَحْنِ‏)‏‏.‏ وقد مرَّ أنه كان حين بَدُن النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وكانوا خِفَافًا، فلو قَارَنُوا معه في الأفعال، ربما أمكن أن يتقدَّمُوا عليه، وقد نُهُوا عنه‏.‏ فلذا أُمِرُوا بالتعقيب، لأن التعقيبَ سنةٌ وأصلٌ‏.‏ ولذا قلتُ‏:‏ إن من صلَّى مع الإِمام، وليس معه غيره، يتأخَّرُ عنه بيسيرٍ، كما هو عن محمد رحمه الله تعالى، لئلا يتقدَّم، فَتَفْسُدُ صلاته‏.‏

باب‏:‏ السُّجُودِ عَلَى الأَنْف

وهو روايةٌ عن إمامنا رحمه الله تعالى، ونقل الشاميُّ الرجوعَ عنها، فلا يُجْزِىءُ الاقتصار عليه إلا من عُذْرٍ‏.‏ قلتُ‏:‏ ولعلَّ الإِمامَ لم يَرْجِعْ عنه ثم اعلم أن الجبهةَ واحدٌ، والجبين‏:‏ اثنان، وهما قرنا الرأس‏.‏

812- قوله‏:‏ ‏(‏وأَشَارَ‏)‏، فسمَّى الجبهةَ، وأَشَارَ إلى الأنف‏.‏ ويجري فيه ما ذَكَرَهُ صاحب «الهداية» في باب المهر‏:‏ أن التسميةَ إذا تَعَارَضَتْ بالإِشارة، فهل تُعْتَبَرُ بالإِشارة أو بالتَّسْمِيَةِ‏.‏ ثم حرَّر أن العبرةَ عندنا بالإِشارة، فإنها أبلغ بالتعيين‏.‏ وحينئذٍ لمَّا كانت الإِشارةُ إلى الأنف، دَلَّت على أن الاقتصارَ عليه كافٍ‏.‏ واعْتَرَضَ عليه ابن دقيق العيد أن قوله إلى الأنف تعبيرٌ من الراوي، لاتحاد جهة الأنف والجبهة، فكيف تعيَّن كونها إلى الأنف‏؟‏ لِمَ لا يجوز أن يكونَ أشار إلى الجبهة، ولمَّا كانت جبهته جهة الأنف، عبَّر عنه الراوي بما ترى‏؟‏

812- قوله‏:‏ ‏(‏ولا يَكْفِت الثياب‏)‏، دلَّ النهيَّ على سجود الثياب أيضًا، وَسَيُبَوِّبُ المصنِّفُ رحمه الله تعالى بباب عقد الثياب لِمَا يُتَوَهَّمُ من النهي الإطلاق، مع أنه ثَبَتَ إذا خاف الانكشاف، كما في التوشُّح، والمخالفة بين الطرفين والعقد‏.‏

باب‏:‏ السُّجُودِ عَلَى الأَنْفِ في الطِّين

قال الفقهاء إذا كان وَحْلا لا يمكن السجود عليه حيث يَدُسُّ الوجهَ فيه، يُؤَخِّرُ الصلاة‏.‏

باب‏:‏ عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا، وَمَنْ ضَمَّ إِلَيهِ ثَوْبَهُ إِذَا خافَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُه

يريدُ أن العقدَ عند خَوْف الانكشاف ليس من الكفِّ الممنوع‏.‏

814- قوله‏:‏ ‏(‏فقيل للنساء‏:‏ لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ دلَّ على أن المعتبر في السَّتْرِ‏:‏ هو السَّتْرُ في نفسه، فلو تعمَّق أحدٌ في النظر ورآها لم يمنع، ثم هذا كله عند سَعَةِ الثياب‏.‏ أمَّا في الحديث، فكان لقلّة الثياب إذ ذاك، كما صَرَّح به الراوي عند مسلم‏.‏

باب‏:‏ لا يَكُفُّ شَعَرًا

وذلك لِما مَرَّ‏:‏ «أنها تَسْجُدُ أيضًا»، إِلا أن الحديثَ فيه لَمَّا لم يكن على شرطه، أخرج له حديثَ السجود على سبعة أَعْظُم‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وإنما أراد بذلك التنبيه على سجود تلك الأعضاء، وأنها تَسْجُدُ أيضًا، بمعنى‏:‏ «إنَّ لها سجودًا برأسه، إِنَّ الإنسَانَ ساجدٌ وتلك آلاتها فقط‏.‏

باب‏:‏ لا يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلاة

والسَّدْلُ والكفُّ ممنوعان عندنا أيضًا، فالمطلوبُ هو الاعتدالُ في الصلاة‏.‏ أمَّا تفسيرُ السَّدْل فراجعه من «المغرب» للطبري، فإنه لخصَّ فيه «المعجم» وذكر فيه لغات فقه الحنفية‏.‏ وأمَّا لُغَاتُ فقه الشافعية، فمذكورةٌ في «التهذيب»‏.‏

باب‏:‏ التَّسْبِيحِ وَالدُّعاءِ فِي السُّجُود

وجملةُ الأحاديث أن الأدعيةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثَبَتَ في عِدَّة مواضع‏:‏ بعد التحريمةِ قبل القراءةِ، وبعد القراءةِ قبل الرُّكُوعِ، وفي الرُّكُوعِ، وفي القَوْمةِ، وفي السَّجْدَةِ، وبين السجدتين، وبعد التشُّهد قبل التسليم‏.‏ ولو عدَّدنا ما عند الطبراني لازداد موضعٌ آخر، وهو‏:‏ «أنه قال بعد الفاتحة‏:‏ آمين ثلاث مراتٍ»‏.‏ وفي لفظٍ‏:‏ «أنه قال‏:‏ آمين، ثم قال‏:‏ اللهم اغفر لي»‏.‏ ثم إذا دَعَا أحدٌ في غير المواضع المشهورة أحيانًا، حسَّنه الشارع أيضًا، ولم يُعَنِّفْهُ عليه‏.‏ وقد قدَّمنا عن المحقِّق ابن أمير الحاج‏:‏ أن الأدعيةَ والأذكارَ كلَّها تجوز في الصلوات كلِّها، وفي الفرائض أيضًا بشرط عدم التثقيل على القوم، غير أن المكتوباتِ لما كان مبناها على التخفيف، كما تَدُلَّ عليه قصة مُعَاذ رضي الله عنه وغيرها، لم يَجْرِ العملُ بها عندنا في المكتوباتِ، حتى تَرَكُوا ذكرها في الكُتُب أيضًا، بخلاف النوافل، فإِنَّها على رأيه فإِن شاء طوَّلها أطول من أطول، فوضعوها فيها‏.‏ وفي «المبسوط» ما يَدُلُّ على عدم جوازها في المكتوبات‏.‏

817- قوله‏:‏ ‏(‏يتأوَّل القرآن‏)‏‏:‏ أي هذه كانت صورة العمل بالاستغفار المأمور به في سورة الفتح‏.‏ وعن عائشةَ رضي الله عنها‏:‏ «أنه صلى الله عليه وسلّم جعلها وظيفةً له بعد نزولها، قاعدًا وقائمًا، آيبًا وذاهبًا»، لأنه كان فيها خبرُ وفاته، فكان الإِكثار في آخره‏.‏ وحينئذٍ لو ادَّعى أحدٌ أن هذا الدعاء ينبغي أن يَقْتَصِرَ عليه صلى الله عليه وسلّم ولا يكون سنةٌ في حقِّنا، كان له وجهٌ‏.‏

باب‏:‏ المُكْثِ بَينَ السَّجْدَتَين

واعلم أن التَّعْدِيلَ في المواضع الأربعة سنةٌ في تخريج الجُرْجَاني، وعند الكَرْخِي‏:‏ واجبٌ في الركوع والسجود، وسنةٌ في القَوْمَةِ والجِلْسَة، واختار الشيخُ ابن الهُمَام الوجوبَ في المواضع كلِّها‏.‏ ثم في كُتُب الحنفية‏:‏ إنه فرضٌ عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وواجبٌ عندهما‏.‏ وهذا يَدُلُّ على ثبوت الخلاف بين أئمة الحنفية، ولم يتحقَّق عندي بينهم خلافٌ، لأن الطحَاويَّ لم يَذْكُر فيه خلافًا، بين أئمتنا، مع كونه أعلم بمذهبنا‏.‏

وفي «البدائع» عن أبي حنيفة لمن تَرَكَهُ‏:‏ أخشى عليه أن لا تَجُوزَ صلاته، فدَلَّ على عناية الإمام بالتعديل جدًا‏.‏ فمن نَسَبَ إلينا أن معاشرَ الحنفية لا يُبَالُون به، فقد أتى ببهتانٍ عظيمٍ‏.‏ والذي ظَهَرَ لي‏:‏ أن لا خلافَ في المسألة أصلا، فإن التعديلَ بقدر انقطاع الحركة الانتقالية فرضٌ عندنا أيضًا، وهذا هو الذي يعني الشافعية بركنيته، وقدر تسبيحةٍ واجبٌ، وبعد ذلك فهو سنةٌ، وإذن لم يَبْقَ بيننا وبينهم خلافٌ‏.‏ ثم اعلم أن الأدعيةَ في القَوْمة وردت في «الصحيحين»‏.‏ وأمَّا في الجِلْسَة، فمذكورةٌ في «السنن» مع مناقشته فيها، فدَلَّ على خِفَّة أمرها في الجلْسَة بالنسبة إلى القَوْمة‏.‏ وهي فريضةٌ عند أحمد في الجِلْسَة، وأقلُّها أن يقولَ‏:‏ اللهم اغفر لي‏.‏ قلتُ‏:‏ وينبغي الاعتناء بها للحنفي أيضًا، لأن الركوعَ والسجودَ لا يأتي فيهما التقصير، لمكان تلك الأذكار الموضوعة فيها، بخلاف القَوْمة والجِلْسَة، فإن التقصيرَ يأتي فيهما كثيرًا‏.‏ ولذا أقول باعتناء الأذكار فيهما أيضًا‏.‏

818- قوله‏:‏ ‏(‏قال أيُّوبُ‏:‏ كان يَفْعلُ شيئًا لم أَرَهُم يَفْعَلُونَه‏:‏ كان يَقْعُدُ في الثالثة أو الرابعة‏)‏ فيه دليلٌ على خُمُول جَلْسَة الاستراحة وقلَّتها جدًا‏.‏ ومع ذلك ثَبَتَت في الروايات، وصرَّح الحلواني بجوازها، ومن صرَّح منها بالكراهة، فلْيَحْمِلْها على تطويلها على القَدْر المُعْتَاد، وإلا فهو مخالفٌ للحديث‏.‏

818- قوله‏:‏ ‏(‏لَمْ أَرَهُمْ‏)‏، وفيه دليلٌ على شِدَّة خمول جِلْسَة الاستراحة، فإن القائلَ تابعي لا يَنْقُلُ إلا من عمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين‏.‏ وهو حُجَّةٌ قاطعةٌ عندي لنفي جِلْسَة الاستراحة، لأن أقوى الحُجَجِ عندي‏:‏ هو التوارث والتعامُل، لا سِيَّما إذا كان فيما يَكْثُرُ وقوعه، كَجِلْسَة الاستراحة‏.‏

باب‏:‏ لا يَفتَرِشُ ذِرَاعَيهِ فِي السُّجُود

واعلم أن المطلوبَ عند الشارع أن يكونَ المصلِّي في صلاته على أعدل حالٍ وأحسن هيئةٍ قال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 31‏)‏ من ههنا حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يختار أقبح الهيئة في صلاته، كانبساط الكلب، والتفات الثعلب، ونَقْرَة الدِّيك، أو الغُرَاب، وعُقْبَة الشيطان، وبروك الجمل، وتوطين البعير، وتذبيح الحمار‏.‏

فمن كان خُلِقَ على أحسن تقويمٍ، لا ينبغي له أن يَحْضُرَ بين يدي خالقه على هيئة الأنعام‏.‏

وعند أبي داود وعن ابن عمر‏:‏ «أن اليدين تَسْجُدَانِ أيضًا»‏.‏ وسجودهما‏:‏ بأن تكون صاعدةً من الأعلى وخافضةً من الأسفل‏.‏ وبالافتراش تَنْعَدِمُ تلك الهيئة، فَيَنْعَدِمُ سجودها، وقد مرَّ أن الشرعَ أراد حِفْظَ الصلاة عن الهيئة القبيحة والتشبُّه بالحيوانات، وفي الافتراش ذلك، فإِن الكلبَ يَفْتَرِشُ ويُقْعِي، ولو فعله أحدٌ في التراويح إذا تَعِبَ وَسِعَه ذلك‏.‏

باب‏:‏ مَنِ اسْتَوَى قاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ، ثُمَّ نَهَض

الآن تَرْجَم المصنِّفُ رحمه الله تعالى على جَلْسَة الاستراحة، وَفَهِمَ منها الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ أنه اختارها، وأنها سنةٌ عنده‏.‏ قلتُ‏:‏ أمَّا كونها سنةً، فقد عَلِمْتَ حاله ممَّا قاله أيُّوبُ رضي الله عنه آنفًا، نقل عن أحمد رحمه الله تعالى من عدم ثبوتها في الأحاديث إِلا قليلا، ومن اختياره الترك بنفسه، وإن ثَبَت عنه في الآخر، فهو الكِبَر لا للرُّجُوع عنه كما فُهِمَ، وأمَّا كون المصنِّف رحمه الله تعالى اختاره، فلا دليلَ فيه أيضًا، لأنه لم يُفْصِح به، بل وضع لَفظ‏:‏ «مِنْ إشارةً إلى خِفَّة أمرها، كأنه أشار إلى مُسْكة من اختار الرفعَ، والنظرُ إذا دار في مسألةٍ فَعَلَ فيها المصنِّفُ رحمه الله تعالى كذلك، ولا يتولَّى به بنفسه‏.‏

وقد مرَّ مِنَّا أن من جَلَس جَلْسة الاستراحة، فلا يَخْلُو إمّا أن يُكبِّرَ للنهوض تكبيرةً أخرى، أو يطوِّلَ تكبيرةَ الرفع من السجود، أو يقطعها‏.‏ فعلى الأول يَلْزَمُ الزيادة على أعداد التكبير، وعلى الثاني يَلْزَمُ العُسْر، وعلى الثالث يَلْزَمُ خلاف المعهود من التكبير عند كل خفضٍ ورفعٍ‏.‏ وليس هذا إِلا لِمَا عَلِمْتَ من خُمُولها، فإِن الشيءَ إذا خَمَلَ ونَدَرَ، قلَّ عنه البحثُ، والفحصُ والتأصيلُ، والتفريعُ كما مرَّ آنفًا في قراءة الفاتحة ورفع اليدين‏.‏

باب‏:‏ كَيفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ إِذَا قامَ مِنَ الرَّكْعَة

واعلم أن الاعتمادَ على الأرض في القِعْدَة مكروهٌ بلا خلافٍ، وإنما الخلاف في الاعتماد عند النهوض‏.‏ واختاره الشافعيةُ، وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعله‏.‏ وبوَّب أبو داود‏:‏ بكراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، وأخرج فيه عن ابن عمر حديثًا اخْتُلِفَ في ألفاظه، ولفظ عبد الملك‏:‏ «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن يَعْتَمِدَ الرجلُ على يديه إذا نَهَضَ في الصلاة‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏ وهذا عينُ نقيض ما ذَهَبَ إليه الشافعيةُ، إلا أنهم لمَّا اختاروه التزمتُ جوابه، لكن أنكرتُ كونه سنةً- أعني كونه مطلوبًا عند الشرع- فأمرُه عندي أخفُّ من جِلْسَة الاستراحة أيضًا‏.‏

والذي يَظْهَرُ عندي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يَفْعَلُه من اجتهاده، لأنه لم يكن يتسعينُ بالرُّكَب عند الخُرُور إلى السجود والرفع منه‏.‏ فإِذا رفع رفع كذلك، زعمًا منه أو وضعَهما على الرُّكْبَتَيْن انقطاعٌ لسجودهما، ونقصٌ فيه، فإِنهما إذا ارتفعتا للسجود، فتمامية سجودهما‏:‏ أن تَذْهَبَا إليه كذلك بدون وقوف في البين، فإِذا لم يضعهما على الرُّكْبَتَيْن عند السجود لذلك، لم يضعهما عند الرفع منه أيضًا، لتبقى شاكلتهما في الصورتين واحدةً‏.‏ ونحوه قرَّرنا فيما قبل من كلام الطَّحَاوِيِّ رحمه الله تعالى‏:‏ إن بُنْيَةِ الصلاة تُبْنَى على التفريج، وعدم اعتماد بعض الأعضاء على البعض‏.‏ فإِذا كان الأمرُ عنده كذلك، فلعلَّه لمَّا كبَّر وثَقُل جهدْ في القيام بدون اعتمادٍ على الرُّكب، فاضْطَرَّ إلى وضعهما على الأرض، وهكذا يكون في الفروع‏.‏

فإِن الإِنسانَ إذا اختار جانبًا، ثم تظهر له فروع، يُكَمِّلُها ويُرَتِّبُهَا على الأصل الذي اختاره، وهو معنى الاجتهاد‏.‏ وعندي فإن الجزئيَّ الواحدَ قد يَصْدُقُ عليه ألف كُلِّيَّات‏.‏ كذلك الصورةُ الواحدةُ قد تَدْخُلُ في عِدَّة ضوابط، فالنظر في أنها إلى أيِّ الضوابط أقرب لِيَنْسَحِبَ عليها حكمها، هو الاجتهاد، ولا يهتدي إليه غير المجتهد‏.‏ فصورةُ الاعتماد إنما حَدَثَت من نحو هذا، ولا أراها ثابتةً من السُّنية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

824- قوله‏:‏ ‏(‏وكان ذلك الشيخُ يُتِمُّ التكبيرَ‏)‏‏:‏ أي يَسْتَوْفي عددها، ويأتي بتمامها، ولا يُنْقِصُ منها شيئًا‏.‏ وذلك لأنا قد عَلِمْنَا من الخارج‏:‏ أنه كان وقع فيها حذفٌ من بني أُميَّة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واعْتَمَدَ على الأرض‏)‏‏.‏ ولا أحفظُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم شيئًا في ذخيرة الحديث إلا قوله‏:‏ «استعينوا بالرُّكَب»، أو «أمِسُّوا بالرُّكَب»، وبوَّب عليه الترمذيُّ بالاعتماد في السجود، فزاد فيه لفظ السجود من عنده، مع أنه ليس في نسخة الحافظ‏.‏ وعنده ما يَدُلُّ على أن الترمذيَّ حمل الاستعانةَ على الاستعانة عند الرفع‏.‏ وقد مرَّ الكلامُ فيه مبسوطًا عن قريبٍ‏.‏

باب‏:‏ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَين

وقد مرَّ أن السُّنة‏:‏ أن يجعلَ الانتقالَ مَعْمُورًا بالذكر‏.‏ واختصر المصنِّفُ رحمه الله تعالى حديث أبي سعيد في إمامته، وهو عند النَّسائي مُفَصلا‏.‏ وإنما تَقَرَّضَ فيه الراوي إلى جهره بالتكبير، لِمَا عَلِمْتَ من حذف بني أُمَيَّة بعدها‏.‏ أمَّا المصنِّفُ، فلعلَّه يريد به التعريض إلى حيث يُنْكِرُون بالتكبير عند النهوض من القِعْدَة‏.‏ وقالوا به عند المالكية عند بلوغه في القيام، لتكونَ شاكلتُها وشاكلةُ الركعة الأولى واحدةً‏.‏

قلتُ‏:‏ وإن حصل به التناسُب، لكن الأمرَ في مثله على النقل عن السلف، لا على التناسُب فقط‏.‏

826- قوله‏:‏ ‏(‏لقد ذَكَّرني‏)‏‏:‏ فيه تعريضٌ إلى عثمان رضي الله عنه‏.‏

باب‏:‏ سُنَّةِ الجُلُوسِ فِي التَّشَهُّد

والمسألةُ رباعيةٌ‏:‏ فعندنا‏:‏ الافتراش فيها‏.‏ وعند مالك رحمه الله تعالى‏:‏ التَّوَرُّك فيها‏.‏ وعند الشافعية‏:‏ الافتراشُ في الأولى والتَّوَرُّك في الثانية، وفي الثنائية التَّوَرُّك فقط‏.‏ وعند أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ كلُّ تشهُّدٍ بعده سلام، فقيه تَوَرُّك، وإلا فافتراش‏.‏ والصواب ما ذكره ابن جرير في «اختلاف الفقهاء»‏:‏ أن الصُّوَرَ كلَّها ثابتةٌ، فالترجيحُ في الاختيار‏.‏ وراجع أدلتنا من الطَّحَاوِيِّ، و«الجوهر النقي»‏.‏ والمصنِّفُ رحمه الله تعالى ذَهَبَ مذهب الشافعية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جِلْسَة الرَّجُلِ‏)‏ وعندنا فرقٌ بين جِلْسَة الرجل والمرأة، فإِنها تَتَوَرَّكُ لكونه أستر لها، ولنا في ذلك مرسلٌ في «مراسيل أبي داود»‏.‏ وممَّا يَدُلُّك على الفرق بين الهيئة في صلاتهما‏:‏ ما قال أحمدُ رحمه الله تعالى‏:‏ إنها لا تَرْفَعُ يديها عند الركوع والسجود، فليتنبَّه‏.‏ ثم اعلم أن الافتراشَ والتَّوَرُّكَ في اللغة قريبٌ من السواء، فإن في التَّوَرُّك افتراشًا، وفي الافتراش جلوسًا على الوِرْك أيضًا، فلا فصلَ في هذين اللفظين، فإِنهما صالحان للنظرين، إِلا أن الراوي إذا قابل بينهما، دَلَّ على أنه قَصَدَ الفرق بينهما‏.‏

827- قوله‏:‏ ‏(‏يَتَرَبَّعُ‏)‏، وكنا نَحْمِلُهُ على التَّربُّع المشهور، ثم عَلِمْنا من كُتُب غريب الحديث‏:‏ أن التَّربُّعَ يُطْلَقُ على جلوس المتشِّهد أيضًا، كتورُّك الشافعية‏.‏ ونقله الحافظ رحمه الله تعالى، وغرضُه منه أن يَجْعَلَ فِعْلَ ابن عمر رضي الله عنه مُؤيِّدًا لمذهبه‏.‏

827- قوله‏:‏ ‏(‏إنما سُنَّةُ الصلاة تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى‏)‏، وهذا صريحٌ في مذهب الحنفية رحمهم الله تعالى‏.‏ وادَّعَى الحافظُ رحمه الله تعالى أنه صادقٌ على مذهبه أيضًا، فإِن نَصْبَ اليُمْنَى يُسْتَحَبُّ في التورُّك عندهم أيضًا‏.‏ وأقول‏:‏ ويقضي العجب من الحافظ كيف حَمَلَهُ على مذهبه، مع التصريح عند النَّسائي بافتراش الرجل اليُسْرَى، والجلوس عليها، فكيف سَاغَ له حَمْلُهُ على مذهبه‏؟‏ بَقِيَ أن ما ذكره ابن عمر رحمه الله من سنة الافتراش، هل هي في قِعْدَة الأولى أو الثانية‏؟‏ فقال الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ إنها في الأولى‏.‏

قلتُ‏:‏ بل هي في الأخيرة، لِمَا أخرجه مالك رحمه الله تعالى عن عبدِ الله بنِ دِينَار‏:‏ «أنه سَمِعَ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وصلَّى إلى جَنْبِهِ رجلٌ، فلمَّا جَلَسَ الرجلُ في أَرْبَعٍ تربَّع، وثَنَى رِجْلَيْهِ، فلمَّا انصرف عبدُ الله، عاب ذلك عليه‏.‏ فقال الرجل‏:‏ فإِنك تَفْعَلُ ذلك فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه‏:‏ إني أَشْتَكِي»‏.‏ وهذا صريحٌ في أن الإِصلاح وَقَعَ في القِعْدَةِ الأخيرةِ، دون الأولى، كما قاله الحافظُ‏.‏

827- قوله‏:‏ ‏(‏إن رِجْلَيَّ لا تَحْمِلاني‏)‏‏.‏ وتمسَّك منه الطحاويُّ أنه يَدُلُّ على أن الرِجْلَيْنِ ممَّا يُسْتَعْمَلانِ في القِعْدَة، وهذا أصدقُ على مذهبنا للجلوس فيه على اليُسْرَى، ونَصْبِ اليُمْنَى بخلاف في التَّوَرُّك، فإِن اليُسْرَى أو اليُمْنَى لا تُسْتَعْمَلانِ فيه، بل هُمَا مهملتان‏.‏ فلو كانت رِجْلاه تَحْمِلانِهِ لاستعملهما في قِعْدَته، وهو بالافتراش‏.‏

828- قوله‏:‏ ‏(‏فَقَالَ أَبو حُمَيْدٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ، وفي حديثه عند الترمذيِّ‏:‏ رفع اليدين أيضًا وحَكَم عليه الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى بالانقطاع، وعلَّله ابن القطَّان المغربي، وابن دقيق العيد أيضًا‏.‏ قال الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ محمد بن عمرو بن عَطَاء لم يُدْرِك صلاة أبي حُمَيْدٍ، وإنما يرويها عن رجلٍ، كما ذكره عَطَّاف بن خالد، والرجلُ الآخر هو‏:‏ عباس بن سَهْل‏.‏ وراجع له رسالتي «نيل الفرقدين»، فقد بَسَطْتُ فيها الكلامَ‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ وَاجِبًا لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم يَامَ مِنَ الرَّكْعَتَينِ وَلَمْ يَرْجِع

باب‏:‏ التَّشَهُّدِ فِي الأُولَى

ولمَّا لم تَكُنْ مرتبةُ الواجب عند المصنِّف رحمه الله تعالى، فالمراد منه عنده الفرضُ، أي من لم يَرَ التشهُّد فرضًا‏.‏ وذلك لأنه رأى أن تركه يَنْجَبِرُ بالسجود، ولو كان فرضًا لَبَطَلَتِ الصلاةُ أصلا، وذاك بعينه دليلُ الوجوب عند الحنفية رحمهم الله تعالى‏.‏ فإِنهم قالوا‏:‏ إن تَرْكَهُ إذا انْجَبَرَ بالسجدة، عُلِمَ أنه ليس بفرضٍ، كما قاله البخاريُّ‏.‏ وإذا احتاج إلى جابرٍ، عَلِمْنَا أنه مهمٌ، وليس كالسُّنة التي لا يَجِبُ بتركها شيءٌ فإذا هو بين بين، وهو الذي نعني بالوجوب‏.‏

ولما لم تكن تلك المرتبة عند الآخرين، تُوجَدُ في كُتُبِهِم مسائلَ عجيبةً‏.‏ ففي كُتُب الحنابلة‏:‏ أن الفرضَ على ضربين‏:‏ الأول ما يكون فرضًا، وشرطًا لصحة الصلاة مثلا‏.‏ والثاني ما لا يكون شرطًا لها‏.‏ قلتُ‏:‏ والثاني هو بعينه الواجب عندنا‏.‏ وكذا في كُتُب المالكية‏:‏ أن الوجوبَ على نوعين‏:‏ وجوبُ سُنَّةٍ، ووجوبُ افتراضٍ‏.‏ وقد اضْطَرَّ الشافعيةُ إلى القول بالواجب في باب الحَجِّ، لأنهم رأوا هناك جِنَايات، ثم تلا فيها بالأجزئية، فقالوا بوجوبها‏.‏

فائدة

واعلم أن الشيءَ الواجبَ، وواجبَ الشيءِ أمران‏.‏ والثاني قليلٌ، فإِنه في الصلاة والحجِّ‏.‏ وهو ما يُوجِبُ تركه النقصان، بخلاف الأوَّل‏.‏ والفرقُ بينهما‏:‏ أن الشيءَ الواجبَ يُطْلَقُ على مجموع ما يتركَّبُ من أجزاء‏:‏ بعضُها أركانٌ، وبعضُها واجباتٌ ومستحباتٌ، كالوتر والأُضْحِيَة وصدقة الفطر مثلا‏.‏ فإِنه واجبٌ عندنا، مع أنه يشتمل على الأركان وغيرها أيضًا‏.‏ بخلاف الثاني، فإنه يُطْلَقُ على جزءٍ خاصَ منه دون المركَّب كالتعديل، أو الفاتحة، وضَمِّ السورة في الأُوَلَيْنِ، فأُسمِّيها واجبَ الشيءِ دون الشيء الواجب، وهذا الإِصطلاح أخذته من كلام صاحب «الهداية»‏.‏

ثم لمَّا رَأَى الحنفيةُ في الصلاة والحجِّ أمورًا يُورِثُ تركها نقيصة، ولا يُوجِبُ فسادًا، سمُّوها باسمٍ مستقلٍ، وهو الواجبُ، أي واجبُ الشيء‏.‏ وكان أولا في هاتين العبادتين فقط، ثم اسْتُعْمِلَ لفظ الواجب في مواضع أخرى أيضًا‏.‏ وفي الحديث لطيفةٌ، فعند أبي داود‏:‏ «ومنا المتشهِّد في قيامه» ‏(‏يعني همين تشهد قيام بين بر هنا برا‏)‏‏.‏ وهذا يَدُلُّ على أنه لم تكن في أذهانهم الفاتحة، وإنما كانوا يَفْعَلُون أمورًا في اجتهادهم، فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَعْلَمُها ربَّما يُقِرُّهم عليها، وطالما يَنْهَى عنها‏.‏

باب‏:‏ التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَة

لم يُتَرْجِمْ بالآخرة فَرْقًا بين الأولى والآخرة، بل لأجل كون الحديث في الأخيرة‏.‏

831- قوله‏:‏ ‏(‏قُلْنَا السَّلامُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ ولعلَّه كان عندهم في السلام تعليمٌ إجماليٌّ، ولم يُفَصَّل لهم بَعْدُ‏.‏ ثم إن السُّهَيْلِي ذكر فَرْقًا بين السالم والسلام، فقال‏:‏ إن السالَم من سَلِمَ من العيوب، والسلامَ من سلَّم غيره من العيوب‏.‏ وعامَّتُهم يُفَسِّرُون السلام بمن سَلِمَ من العيوب، مع أنه يُطْلَقُ في هذا المعنى السليم، دون السلام‏.‏ والصواب‏:‏ ما ذكره السُّهَيْلي‏.‏

831- قوله‏:‏ ‏(‏على جِبْرِيلَ‏)‏ والجبر القوة، وإيل هو الله، فمعناه العبد القوي لله تعالى، وكذلك‏:‏ مِيخَا بمعنى الصديق والحميم، وإسْرَاف بمعنى المصطفى، وعزرا بمعنى الناصر‏.‏

831- قوله‏:‏ ‏(‏التَّحِيَّات‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ قيل‏:‏ التحيَّةُ في اللغة بمعنى دعاء الحياة، ثم انْسَلَخَ عنه، وأُطْلِقَ في الدعاء مطلقًا‏.‏ والمراد بها الآن‏:‏ العباداتُ القوليةُ، ومن الصلوات‏:‏ العبادات الفعليَّة، ومن الطِّيِّبَات‏:‏ العبادات المالية‏.‏ ثم كان هذا تحيَّةٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لربه في ليلة المِعْرَاج‏.‏ فردَّ عليه ربُّه‏:‏ السلامَ عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته‏.‏

831- قوله‏:‏ ‏(‏السلام علينا‏)‏ إلخ‏:‏ تكميلٌ من جانب النبيِّ الكريم عليه الصلاة والتسليم‏.‏ وعند البيهقيِّ ومالك في «موطئه»‏:‏ أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يراه تحليلا للصلاة، ولذا كان يأتي بتلك الجملة في آخرها‏.‏ وعند الجمهور‏:‏ المُحَلِّل هو‏:‏ السُّلامُ عليكم ورحمة الله، دون السلام الذي في التشهُّد‏.‏ وتمسَّك منه الشاه إسماعيل رحمه الله تعالى في «الإيضاح» على أن الجمعَ المُعَرَّفَ باللام يُفِيدُ الاستغراق‏.‏

قلت‏:‏ وهو عندي في باب الأدعية، والنذر، والأيمان مسلَّمٌ، لأن مبناها على الألفاظ فقط‏.‏ أمَّا في غيرها، فلا أُسَلِّم فيها قطعية العموم‏.‏

باب‏:‏ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلام

والأدعيةُ على أنواعٍ‏:‏ منها ما ثَبَتَتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فهي جائزةٌ كلُّها، كما صرَّح به في «البحر»‏.‏ وأمَّا التي كانت من تأليفه، ففيها تفصيلٌ من كونها تُشْبهُ كلام الناس، أو لا‏.‏ وراجع تفصيله من الفقه‏.‏ ثم إني أتعجَّبُ من المصنِّف أنه كيف تَرَكَ الصلاةَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولم يُبَوِّبْ عليها، وبَلَغَ إلى الأدعية مع كون حديثها عنده في الأدعية، وهي سنةٌ عند الجمهور‏.‏ وقال الطحاويُّ رحمه الله تعالى‏:‏ تفرَّد الشافعيُّ رحمه الله تعالى في القول بافتراضها‏.‏ فإِن قلتَ‏:‏ إنه أشار به إلى خلاف الشافعيِّ رحمه الله تعالى، فإنها لا تَنْزِلُ عن السُّنية عند أحدٍ، فلا يُنَاسِبُ ترك ذكرها رأسًا‏.‏ وبالجملة لم يتبيَّن لي وَجْهُهُ إلى الآن، ولعل الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمرًا‏.‏

832- قوله‏:‏ ‏(‏يَدْعُو في الصَّلاةِ‏)‏‏:‏ أي في مواضع الأدعية المأثورة‏.‏

832- قوله‏:‏ ‏(‏من فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ‏)‏، ولم يكن يتبيَّن لي في التعوُّذ منها وجهٌ، فإنها في الحياة، حتى رأيت في «البدور السافرة» رواية‏:‏ «أن من كان في قلبه بغضٌ من عثمان رضي الله تعالى عنه، فإنه لا يَأْمَنُ في قبره من فتنة الدَّجَّال»، فتبيَّن أن أثر تلك الفتنة تَسْرِي إلى القبور أيضًا، وحينئذٍ تبيَّن لي وَجْهُهُ ومن ههنا ظهر وَجْهُ القِرَان بين التعوُّذ من عذاب القبر، والتعوُّذ من تلك الفتنة‏.‏ والمراد من فتنة المحيا‏:‏ المعاصي، ومن الممات‏:‏ سؤال النَّكِيرَيْن‏.‏

باب‏:‏ مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيسَ بِوَاجِب

ويختارُ منها ما يكون أوفق لحاجته، والأحبُّ أن يختارَ الجوامع من الأدعية‏.‏

835- قوله‏:‏ ‏(‏السَّلامُ عليك أَيُّهَا النَّبِيُّ‏)‏‏.‏ واعلم أن النِّدَاءَ والخِطَابَ لاستحضار المنادي في ذهنه، سواء كان حاضرًا في الخارج، أو لا‏.‏ ولذا غَايَرَ ابن الحاجب بين النداء والنُّدْبَة، وعرَّفها على حِدَةٍ‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى

هكذا عند الحنفية، ويَمْسَحُمُهَا بعد الفراغ من الصلاة‏.‏

باب‏:‏ التَّسْلِيم

وهي عند الجمهور‏:‏ تسليمتان، والمختارُ عندنا‏:‏ أنهما واجبتان‏.‏ وفي «فتح القدير»‏:‏ أن الأولى واجبةٌ، والثانية سنةٌ في روايةٍ‏.‏ وعند مالك رحمه الله تعالى‏:‏ هي تسليمةٌ فقط، ويَشْهَدُ له حديثان‏:‏ أحدهما عند أبي داود، في باب الوتر، والثاني عند النَّسائي، في باب الجمع بين الصلاتين‏.‏ فإِذا نُقِلَ العمل بهما في الخارج، وصَحَّ فيها الحديثان، فكأنها دخلت عندي في فهرس أحكام الدين، ولا يَصِحُّ إنكارها‏.‏ ولذا اخترتُ الروايةَ الغير المشهورة‏.‏ ثم عند مالك رحمه الله تعالى‏:‏ هي تسليمةٌ واحدةٌ للمنفرد، وتسليمتان للإِمام والمقتدي إن كان خلف الإِمام، أي لم يكن في جانب المَيْمَنَةِ والمَيْسَرةِ‏.‏ فله ثلاثُ تسليماتٍ‏:‏ تسليمتان لمن عن يمينه ويَسَاره، وتسليمةٌ لإِمامه‏.‏ فكأنه جَعَلَ سلامَ التحليل كسلام التحية، وراعى فيه ما يُرَاعَى من المصالح عند اللقاء‏.‏